استغرقه الأمر بضع لحظات ليتذكر.
لقد اعتاد طوال الأسابيع الماضية أن يفتح عينيه على مشهد مختلف تماماً , نجوم ليل متألقة , أو سماء زرقاء بغيوم متناثرة , أو قماش خيمته المليئ بالثقوب.
لكن السقف الذي يتطلع إليه كان مختلفاً , سقف لم يره منذ أسابيع عدة..
فرك عينيه و تثاءب مجهداً , ثم مرر أصابعه في لحيته الكثيفة , و ابتسم..
مرت شهور عدة منذ أن نذر على نفسه أن لا يقرب الموسى حتى يتحقق الهدف ... وقتها لم يعتقد أنه سينتظر كل هذا الوقت..
تنهد في حرارة...
نهض من فراشه متثاقلاّ و خطى إلى النافذة المحطمة , أزاح بعض الألواح التي تغطيها ... و تطلع عبرها الى مدينته المدمرة ... و شعر بالمرارة و هو يتطلع إلى كل الخراب الذي أصاب المكان الذي ولد فيه و قضى فيه طفولته و شبابه..
ثم رفع بصره إلى الأفق المختفي وراء البنايات العالية .... يمكنه أن يرى من بعيد أعمدة الدخان المتصاعدة الى السماء ... هناك حيث المعارك لا زالت تدور رحاها في شراسة ..
أدار عينيه إلى غرفته, إلى الجدران التي تناثرت عليها أثار الرصاص و الشظايا..
مضت شهور عدة منذ أن كان هنا للمرة الأخيرة...
كان لا بد له أن يأتي , أن يرى هذا المكان , ربما للمرة الأخيرة .. لذا استأذن قائده للعودة ليوم واحد إلي هنا , لكنه لم يخبره بالسبب الحقيقي..
قبل أن يحدث ماحدث ,كان علي وشك انهاء تجهيز شقته هذه قبل موعد زفافه..
كم يفتقد خطيبته ... و ابتسامتها الخجولة النظرة...
مرت أسابيع عدة منذ قرر أبوها الشيخ الكبير أن يترك المدينة ,خوفا علي بناته الثلاث و أمهن من ويلات حرب شنها مجنون علي الجميع..
لم يرها يومها ... و لم يتحدث معها منذ المكالمة الأخيرة قبل أن تغادر مع والدها و قبل يوم واحد من انقطاع الاتصالات تماما..
يومها كان صوتها مرتعشا ,بكت بحرقة , كانت خائفة..
توسلت اليه أن يغادر أيضا...
أخبرها بحزم , بأنه لا يستطيع..
أخبرها بأن الوطن يناديه و أن عليه أن يجيب..
أخبرها بأنه سيبقى ,من أجل الوطن , و من أجلها..
بكت بحرقة يومها . ودعها بكلمات رقيقة ,و أنهى المكالمة و قلبه ينزف..
كم يتمنى رؤيتها الآن ... كم يفتقد عروسه التي لم تزف إليه بعد..
انتزع نفسه من ذكرياته , و جال ببصره في الغرفة , حتي وقعت عيناه على سلاحه الألي .. رفيقه اللصيق طوال الأشهر الماضية..
قبل ذلك ,لم يكن قد لمس قطعة سلاح في حياته..و لم يتصور نفسه يوماً مقاتلا متمرسا , خبر أنواع السلاح المختلفة ,و تعلم فنون الحروب و ويلاتها ...
مد يده يلمس معدن جسم سلاحه البارد , مرر أصابعه على منحنياته , قبل أن يقبض بأصابعه على سلاحه, ويحمله بين يديه , و يسرح ببصره من جديد..
وجوه كل من سقطوا ... بعضهم عرفهم عمره كله ,و بعضهم قابلهم للمرة الأولي في حياته,لكنهم صاروا أخوة سلاح..
ثم وجه أخيه ألأصغر , الذي دفنه بيديه هناك , أسفل تلك الشجرة منذ أسابيع عدة , قرب خطوط القتال..
وجه أبيه , الذي رحل منذ سنوات..
وجه أمه , العجوز الطيبة البسيطة..
و أخته , أطفالها الذين سرقت منهم ابتساماتهم و ضحكاتهم تحت هدير المدافع التي دكت بيوتهم..
ثم تذكر خطيبته من جديد..
المستقبل الذي خططاه معا ,و الحياة البسيطة التي حلما بها..
اشتدت قبضته على سلاحه ,حتى ابيضت أصابعه..
سينتصر ... من أجل الماضي و الخاضر و المستقبل..
سينتصر .. لأنه على حق
سينتصر لأن الله معه
سينتصر .. و إن بعد موته
حتما سينتصر...
و مضى
......
البداية
ع.
لكن السقف الذي يتطلع إليه كان مختلفاً , سقف لم يره منذ أسابيع عدة..
فرك عينيه و تثاءب مجهداً , ثم مرر أصابعه في لحيته الكثيفة , و ابتسم..
مرت شهور عدة منذ أن نذر على نفسه أن لا يقرب الموسى حتى يتحقق الهدف ... وقتها لم يعتقد أنه سينتظر كل هذا الوقت..
تنهد في حرارة...
نهض من فراشه متثاقلاّ و خطى إلى النافذة المحطمة , أزاح بعض الألواح التي تغطيها ... و تطلع عبرها الى مدينته المدمرة ... و شعر بالمرارة و هو يتطلع إلى كل الخراب الذي أصاب المكان الذي ولد فيه و قضى فيه طفولته و شبابه..
ثم رفع بصره إلى الأفق المختفي وراء البنايات العالية .... يمكنه أن يرى من بعيد أعمدة الدخان المتصاعدة الى السماء ... هناك حيث المعارك لا زالت تدور رحاها في شراسة ..
أدار عينيه إلى غرفته, إلى الجدران التي تناثرت عليها أثار الرصاص و الشظايا..
مضت شهور عدة منذ أن كان هنا للمرة الأخيرة...
كان لا بد له أن يأتي , أن يرى هذا المكان , ربما للمرة الأخيرة .. لذا استأذن قائده للعودة ليوم واحد إلي هنا , لكنه لم يخبره بالسبب الحقيقي..
قبل أن يحدث ماحدث ,كان علي وشك انهاء تجهيز شقته هذه قبل موعد زفافه..
كم يفتقد خطيبته ... و ابتسامتها الخجولة النظرة...
مرت أسابيع عدة منذ قرر أبوها الشيخ الكبير أن يترك المدينة ,خوفا علي بناته الثلاث و أمهن من ويلات حرب شنها مجنون علي الجميع..
لم يرها يومها ... و لم يتحدث معها منذ المكالمة الأخيرة قبل أن تغادر مع والدها و قبل يوم واحد من انقطاع الاتصالات تماما..
يومها كان صوتها مرتعشا ,بكت بحرقة , كانت خائفة..
توسلت اليه أن يغادر أيضا...
أخبرها بحزم , بأنه لا يستطيع..
أخبرها بأن الوطن يناديه و أن عليه أن يجيب..
أخبرها بأنه سيبقى ,من أجل الوطن , و من أجلها..
بكت بحرقة يومها . ودعها بكلمات رقيقة ,و أنهى المكالمة و قلبه ينزف..
كم يتمنى رؤيتها الآن ... كم يفتقد عروسه التي لم تزف إليه بعد..
انتزع نفسه من ذكرياته , و جال ببصره في الغرفة , حتي وقعت عيناه على سلاحه الألي .. رفيقه اللصيق طوال الأشهر الماضية..
قبل ذلك ,لم يكن قد لمس قطعة سلاح في حياته..و لم يتصور نفسه يوماً مقاتلا متمرسا , خبر أنواع السلاح المختلفة ,و تعلم فنون الحروب و ويلاتها ...
مد يده يلمس معدن جسم سلاحه البارد , مرر أصابعه على منحنياته , قبل أن يقبض بأصابعه على سلاحه, ويحمله بين يديه , و يسرح ببصره من جديد..
وجوه كل من سقطوا ... بعضهم عرفهم عمره كله ,و بعضهم قابلهم للمرة الأولي في حياته,لكنهم صاروا أخوة سلاح..
ثم وجه أخيه ألأصغر , الذي دفنه بيديه هناك , أسفل تلك الشجرة منذ أسابيع عدة , قرب خطوط القتال..
وجه أبيه , الذي رحل منذ سنوات..
وجه أمه , العجوز الطيبة البسيطة..
و أخته , أطفالها الذين سرقت منهم ابتساماتهم و ضحكاتهم تحت هدير المدافع التي دكت بيوتهم..
ثم تذكر خطيبته من جديد..
المستقبل الذي خططاه معا ,و الحياة البسيطة التي حلما بها..
اشتدت قبضته على سلاحه ,حتى ابيضت أصابعه..
سينتصر ... من أجل الماضي و الخاضر و المستقبل..
سينتصر .. لأنه على حق
سينتصر لأن الله معه
سينتصر .. و إن بعد موته
حتما سينتصر...
و مضى
......
البداية
ع.
5 comments:
Great story Asem, I guess that the mood of the fighter would have been far higher if he did not suffer from the "lonely heart syndrome".
Reida
Hello Dr.Reida... So good to hear from you, and thank you for reading the story and for your opinion..
Yes...lonely heart syndrome...:).. I am sure there is a cure for that some where...
Congratulations to the Libyan people for your amazing victory. You have made history. :-)
good to be reading your posts again..
very beautiful and well said.. the story of not one bu many of the brave fighters!
thank you!
Post a Comment