Friday, November 4, 2011

فخ الشرعية الثورية

يعلمنا التاريخ بأن الثورات عادة تقوم ضد الظلم ,و التمييز الاجتماعي , و احتكار السلطة و الثروة ,وضد الممارسات الديكتاتورية التي قد يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد يمثلون مصالح مشتركة تجمعهم.
لكن المشترك بين معظم تلك الثورات ,منذ قيام الثورة الفرنسية (1789-1799) و حتى تفجر الثورة الليبية(15 فبراير 2011 -؟؟؟؟) هو بروز ظاهرة  ما يسمى بالشرعية الثورية
و كما خبر الليبيون,فقد كانت الشرعية الثورية هي النغمة المفضلة في نظام معمر القذافي المنهار, و التي استعملت في حالات كثيرة لتبرير الاجراءات التعسفية ,و الاعدامات ,و المحاكمات الثورية, و التعيينات الغير قانونية لموالي النظام في مناصب حساسة ,تجاوزا لارادة الشعب تحت مسمى : الشرعية الثورية,و هي بشكل ما اضفاء شرعية على ممارسات ديكتاتورية مطلقة.
ماهي الشرعية الثورية؟
كما سبق و ذكرت,الثورات تقوم عادة لاحداث تغيير درامي في البنية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية الغير عادلة في دولة ما,و هي في المجمل تضع عددا من الأهداف العامة التي يتوافق عليها الثائرون بمختلف توجهاتهم.
فالثورة الفرنسية,على سبيل المثال, تلخصت أهدافها في القضاء على الحكم الوراثي المطلق السلطات ,و القضاء على امتيازات الطبقة الارستقراطية ,و تأكيد حقوق المواطنة المتساوية لكل الفرنسيين.
وهو أيضا ماحدث لدى قيام الثورة البلشفية في روسيا( 1917 ),و التي قضت على حكم القياصرة ,و كانت تدعو الى تحسين وضع القطاعات المهمشة في المجتمع الروسي أنذاك,كطبقة العمال و الفلاحين..و هناك أمثلة أخرى لا يتسع المجال للدخول في تفاصيلها,كالثورة الكوبية مثلا,و عدد أخر من الثورات في أمريكا الجنوبية و أسيا.
و ماحدث عند انتصار تلك الثورات و نجاحها في ازالة اسباب الظلم و عدم العدالة,هو تكون طبقة جديدة سياسية أو عسكرية,نصبت نفسها وصية على أهداف الثورة, و منحت نفسها صلاحية مطلقة ,تحت عنوان الشرعية الثورية,لتتكون بذلك نخبة ذات صلاحيات غير محدودة, تقوم بتبرريها بضرورة اتخاذ اي اجراءات ضرورية ,من وجهة نظرهم,,لضمان تحقيق اهداف الثورة,و هو ما قد يقود الى انحراف خطير في المسار  ,والانزلاق الى تبرير ممارسة ذات التعسف و التجاوزات التي قامت الثورة أساسا للتخلص منها.
ففي حالة الثورة الفرنسية,مثلا, نشأت ما يسمى بلجنة السلامة العامة (1793-1795) و التي تسبب أعضاؤها في خلال الفترة المذكورة,التي أطلق عليها : فترة الرعب,في اعدام ما يتراوح بين ستة عشر ألفا و أربعين ألف فرنسي,بدعوات مختلفة تتضمن التأمر على الشعب الفرنسي , والثورة ,و الاضرار بمصالح الجمهورية الفرنسية الأولى...الخ
و أمر مماثل حصل في الثورة البلشفية في روسيا ,بقيام الحزب الشيوعي بالسيطرة المطلقة(1922-1991) ,منصبا نفسه ممثلا لمصالح العمال,و قيامه بأقسى أجراءات القمع و التنكيل بدعوى محاربة الرأسمالية و البرجوازية الغربية..
يمكنك هنا ملاحظة التشابه الواضح بين هذه الحالات و الحالة التي كان يرزح تحتها الشعب الليبي طوال 42 عاما من حكم فرد مطلق,و منحه صلاحيات غير محدودة لمؤسسة اللجان الثورية ,التي كانت عمليا فوق القانون ,من منطلق الشرعية الثورية التي منحت لها لتمارس ما يلزم لحماية النظام.
و كنتيجة لانحراف الثورات عن مسارها تحت سيطرة هذه القوى,تنشأ طبقة حاكمة جديدة ذات سلطات شبه مطلقة,هدفها الرئيس هو حماية الامتيازات و تسخير كل المبررات و الامكانيات لتحقيق هذا الهدف,دون أي مرجعية ,حتى مرجعية الشعب نفسه, الذي فجر الثورة بدءا.
هل ليبيا في خطر الوقوع في هذا الفخ؟
في الحالة الليبية,قطاعات متنوعة من الشعب ثارت ضد حكم ديكتاتوري مريض,منادية باسقاطه و انتزاع الشعب لحريته و حقه في العيش بكرامة على أرضه و الاستفادة من مقدراتها..اشترك في ذلك الرجال و النساء, الكبار و الصغار, العسكريون و المدنيون ,شديدو التدين( لن اقول الاسلاميون) و الأقل تدينا..ثارت مدن الشرق و الغرب ,و معظم القبائل..
و بعد أن دفع معمر القذافي دفعا الى عسكرة الثورة,تغير كل شئ .
اذ نشأت كتائب مسلحة للثوار ,قامت بملحمة كبرى لحماية الثورة و محاربة الالة العسكرية الرهيبة لمعمر القذافي, و تحقق لها نصر مؤزر بتوفيق الله سبحانه و تعالى,و شجاعة المقاتلين,ووقوف العالم الى جانب ليبيا.
لكن ,كنتيجة حتمية لنشؤ تلك التشكيلات المسلحة القوية في مختلف المدن ,و بتوجهات مختلفة,تعالت أصوات البعض تنادي بوضع خاص للثوار في مستقبل ليبيا السياسي,و يصل الأمر بالبعض الاعلان صراحة بأنه لن يضع السلاح, و لن يخضع لأي سلطة ,لأنه يرى بأن (الشرعية الثورية) الممنوحة من قبل الثوار تمنحهم صلاحيات تبررها تضحياتهم,و يرفضون بموجبها أن تتم مساواتهم بمن لم (يثوروا) و أن يكون لهم امتيازات تحديد مسار ليبيا المستقبل..و أصوات أخرى تنادي بامتيازات جهوية خاصة لا تأخذ في الاعتبار تضحيات الشعب بأكمله الذي دعم بها الثورة كل على حسب قدرته,و الا لما كتب لها النجاح لو لم يكن لها قاعدة شعبية تحتضنها.
هذه الدعوات لا زالت تصدر بشكل فردي من مجموعات متفرقة,فالكثير من الثوار الأن ألقوا السلاح, ويحاولون لعب دور فعال في بناء الدولة الجديدة ,التي يأملون أن تكون دولة قانون و عدل و مواطنة,لكن تلك الأصوات لا زالت مصدر للقلق و عدم الاستقرار في هذه الفترة الحساسة من تاريخ ليبيا.

الحل؟
يحتاج التعامل مع الوضع الحالي الى كم هائل من الحكمة و التروي في التعاطي و المقاربة,تكون الأولوية فيه للتأكيد على الأهداف الأساسية التي قامت عليها الثورة,و هو ارساء مبادئ دولة العدل و القانون. و تبيان أن التهديد باستخدام السلاح لن يؤدي الا الى انعدام الاستقرار و تأخير تحقيق طموحات غالبية الشعب الليبي
يمكننا أيضا الاستفادة من دروس التاريخ و تجارب الامم الاخرى الناجحة,كتجربة الثورة الأمريكية مثلا, فخلال حربهم ضد الحكم البريطاني(1775-1783) ,تعددت الميليشيات المسلحة المتكونة من مدنيين قاموا بدور أساسي في الانتصار على هذا الحكم,و ضمان الاستقرارعند نشؤ الولايات المتحدة الأمريكية,و تم في ما بعد ادماجها في المجتمع بحيث يظل وجودها ضمانا لأمن المجتمع,لكن ضمن مرجعية سلطة الدولة و الدستور..و هي لا تزال موجودة الى اليوم بمسمى :الحرس الوطني في الولايات المتحدة,و أو دمجهم في قوات الجيش النظامي أو الشرطة اذا لم يرغبوا بالعودة للحياة المدنية,
لابد أن ندرك كليبيين أن نشؤ طبقة ,مهما عظمت تضحياتها, تحاول تبرير امتيازات و سلطات مطلقة بهذه التضحيات هو في الواقع خطوة الى الوراء..لا يمكن لأي كان أني ينكر كل هذه التضحيات,و يجب اتخاذ ما يلزم لضمان حصول الثوار على ما يستحقونه من تقدير و اهتمام و معالجة المصابين منهم و ضمان دمج المقاتلين في المجتمع من جديد لأداء دورهم الفعال كمواطنين,التأكد من حصولهم على الرعاية اللازمة الصحية و النفسية و الاجتماعية و ضمان مساهمتهم في بناء الدولة و حق الممارسة السياسية الديمقراطية ,لكن دون نشؤ طبقة جديدة قد يحاول بعض اعضائها القفز فوق القانون و الشرعية التي منحها الشعب ,و ذلك تحت مسمى : الشرعية الثورية
أيا يكن,فان استمرار المظاهر المسلحة خارج اطار الشرعية وبعيدا عن مظلة الدولة و الشرعية الدستورية في اطار مؤسساتسي,هو وصفة مؤكدة لانعدام الاستقرار و محاولة فرض أمر واقع على الشعب الليبي من قبل بعض من لديهم أهداف مشبوهة لا تتوافق مع مصالح الشعب الليبي..

و الله من وراء القصد
د.عاصم سليمان