خلال دراستي بالسنة الأولى بثانوية صلاح الدين، كان من ضمن المنهج الجديد( تذكرون تلك الايام ، عندما كان يصحو العقيد العتيد من النوم، و يقرر انه حان وقت تغيير المناهج ، مرة على الاقل كل سنتين)، كتاب اسمه علم الاجتماع على ما اذكر.
اذكر قراءة فقرة في ذلك التاب ، جعلتني استغرب كيف سُمح له أن يدرّس. الاجابة كانت في السنة التالية حين تم الغاء الكتاب من المقررات.. الفقرة كانت في جزء يناقش انواع مختلفة من الحكم و خصائصها العامة. و تحدث عن انظمة الحكم العسكرية التي وصلت الى السلطة عن طريق انقلابات او ثورات او ايا يكن .. و تحدث عن ان احد اهم خصائص هذه الانظمة، هو الخشية من عدم الاستقرار الداخلي بسبب فساد تلك الانظمة و عدم اكتراثها بالاصلاح و تركيزها على الاستمرار باي ثمن. لذا تقوم هذه الانظمة بزج تلبلاد في ازمات مصطنعة داخلية و خارجية، و اثارة القلاقل و عدم اليقين في نفوس الناس ، بحيث يتم تطويع الشعب على ان ينظر دوماً الى حكومته على انها صمام الامان المنقذ و حامي حمى الوطن من اخطار خيالية ، تجعل الشعب يغض النظر عن التجاوزات البشعة و الممارسات الوحشية التي تقوم بها تلك الانظمةفي حق شعبها..
هذا كان واضحاً ابان حكم منظومة القذافي ، و التي ساهمت الى حدٍّ بعيد على استمرار حكمه طوال اربعة عقود و نيّف، وكلنا نذكر كل تلك الازمات المصطنعة التي زجّ ليبيا بها.
اوردت ما سبق كمقدمة لطرح بضع نقاط:
* محاولات مستمرة لميليشيات و تشكيلات مسلحة يقودها أمراء حرب و لاعبون ذوي توجهات سياسية و جهوية و دينية معينة، للإيحاء بضرورة استمرار الوضع الحالي، و اهميتهم المفترضة لحفظ السلم الاهلي ( هنا اريد ان اوضح ادراكي لوجود استثناءات تشمل الكثير من الثوارالوطنيين الحقيقيين )، و تمسكهم بالسلاح و تأكيدهم على حقهم المطلق في امتيازات خاصة و سلطات فائقة ، تميزهم عن باقي تكوينات المجتمع.
* ترفض هذه التشكيلات بشكل مطلق، و عنيف في عدة احيان، اي تهم توجه لها بالتقصير او بالمساهمة في زعزعة الامن العام ، بشكل مباشر او غير مباشر، و برغم استمرار عمليات الخطف و القتل و الاغتيالات الممنهجة و السرقات و التهريب، الخ، خلال سيطرتها المباة على المسرح الامني، الا انها لا تتوانى عن توجيه الاتهام الى منتقديها بإنهم السبب وراء عدم الاستقرار.. مثال جيد على هذا هو ما اصطلح البعض على تسميته( جمعة انقاذ بنغازي) و اخرون ( جمعة اغراق بنغازي)، فبرغم ان التجاوزات الامنية التي حدثت بعد هجوم البعض على بعض تلك التشكيلات المسلحة، هي نفسها ، الى حدّ بعيد ،التي كانت تحدث خلال الفترة التي كان يدّعي فيها هؤلاء امساكهم بالمشهد الأمني كاملاً. ( مع إدراكي التام ان بعد المهاجمين على تلك التشكيلات لديهم ايضاً اجندات خاصة بهم).
* برغم حدوث عشرات عمليات الاغتيال في مدينة بنغازي، كان يتم التعامل معها بنوع من المبالاة الممنهجة، كأنما هذه العمليات هي أمر ( متوقع) و في بعض الأحيان ( ضروري)، و رفضت اي جهة تحمل مسئولية ما يحدث بتوفير الامن و التحقيق الجاد، برغم وضوح طبيعة المستَهدفين ، و هذا لا يمكن تفسيره، منطقيا، الا بشيئين: معرفة من يقوم بهذه العمليات تماما، و ادراكهم عدم قدرتهم على الدخول في مواجهة معهم، بسبب توازن دقيق في القوى ( و هنا لا اتحدث عن شماعة الأزلام الجاهزة او اجهزة خارجية-برغم ادراكي لدور ما يلعبه هؤلاء ايضاً لمحاولة زعزعة الامن بالداخل) ، و السبب الآخر هو ادراكهم انهم غير مستهدفين، و ان تلك العمليات تصب في صالحهم ، بكونها تستهدف عناصر منافسة محتملة من عناصر امنية و عسكرية( برغم ان بعض هؤلاء من ابطال التحرير، و هو ايضاً منح من وراء تلك التشكيلات المسلحة حجة لتقوية وجهة نظرهم باتهام الأزلام بالوقوف وراء تلك العمليات لغرض الانتقام)
* تلك المسرحيات المصممة ، بذكاء شديد، لتوجيه انظار الناس في اتجاه معين و لفت انظارهم بعيداً عن ما يحدث.
يحظرني مثالين مثيرين للاهتمام :
1- اقتحام مدينة بن وليد العام الماضي للتعامل مع بعض الجيوب المتعاطفة مع النظام السابق. اذ صاحب هذه العملية انقسام مجتمعي كبير ، بين رافض لها و داعم . هذا اربك بعض الحسابات ، مما حدا بالبعض الى اطلاق خبر العثور على خميس القذافي مصابا و مختبئاً هناك، و هو ما نجح في الهاء الناس .
2- مثال حديث، ما جرى من اعتداء غير مقبول على منزل السيد المدعو بن حميد في بنغازي ، و برغم أن المنزل كان خالياً و لم يسقط فيه اي ضحايا، الا أنّ استشعار البعض بأن هالة القدسية و الحصانة و المنعة الثورية التي تحيط بهم قد بدأت بالتآكل، قد ادّى الى كل هذا الضجيج ، الذي تم تتويجه بظهور السيد بن حميد على الناس في حديث اخرق تم فيه تبادل اتهامات بذيئة بينه و بين بعض اعدائه، و وجه فيه تهديدات اظهرته كزعيم عصابة اكثر من صورة البطل الثوري الورِع التي حاول التدارك و اظهارها و تسويقها في نفس اللقاء.
من المثير هنا الإشارة أنه بعد الضرر الذي احدثه هذا اللقاء بيومين، و في انعطاف ( ملائم )للأحداث،تم الإعلان عن القبض على شبكة ارهابية من المرتزقة ( مكونة من أجانب طبعا، و ينتمون الى دولة معروف عنها عدم اكتراثها كثيرا لمواطنيها الفقراء عموما ،يجهلون المدينة و لا يتحدثون لسانها وحتما يحتاجون توجيها داخليا من عناصر محلية)، و محاولة الإيحاء بأنهم جزء من مجموعة هي وراء كل ماحدث. و برغم ان المنطق يقول ان اي مجموعة تخريبية منظمة ، ستقوم حتما بالتراجع و اعادة التقييم و التنظيم في حال القبض على عدد من افرادها ، للتأكد على الأقل من أن أمر باقي الشبكة لم ينكشف. و مع ذلك رأينا إستئنافاً شبه مباشر لعمليات الاغتيال باستهداف ضابط بسلاح الجو، و تفجيرات اليوم التي استهدفت سيارات منظمي انتخابات لجنة الستين. هذا يدل بوضوح. أن الجهة المسئولة تدركك تماماً أنها بعيدة عن احتمال ملاحقتها، و أنها أحدد اللاعبين في المشهد الأمني الحالي على الأغلب.
من جديد: أوجه اصابع الاتهام الى المتسببين في الفوضى الأمنية الحالية الى كل الميليشيات و التشكيلات المسلحة و من يقف وراءها من سياسيين سواء في الحكومة أو المجلس الوطني الذين يوفرون الغغطاء المادي و السياسي لتلك التنظيمات أيا كان ما ترفعه من شعارات و مبررات، و محاولاتها الواضحة لتقاسم النفوذ و تحصيل الإمتيازات و فرض اتجاه معين على عموم الليبيين و رسم مستقبل لليبيا يتجاوز مصالح الوطن وأفراده.
عاصم سليمان
No comments:
Post a Comment